أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيّاها ، واعتقاد أنّها تضرّ ، وتنفع كقول الشاعر : [الطويل]
٣٣٠٨ ـ بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي |
|
فقلت : ومثلي بالبكاء جدير |
أسرب القطا هل من يعير جناحه؟ |
|
لعلّي إلى من قد هويت أطير (١) |
فأوقع «من» على السرب ، لمّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني : المشاكلة بينه وبين «من يخلق».
[الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق] وبين «من لا يخلق» من أولي العلم ، وأنّ غير الخالق لا يستحقّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجماد المنحطّ رتبة ، السّاقط منزلة عن المخلوق من أولي العلم ؛ كقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] إلى آخره ؛ وأمّا من يجيز إيقاع «من» على غير العقلاء من غير شرط كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري (٢) ـ رحمهالله ـ : فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها ؛ تشبيها بالله تعالى ـ جلّ ذكره ـ وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ـ سبحانه لا إله إلا هو ـ فكان حقّ الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عزوجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنس المخلوقات ، وتشبيها بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ).
فصل في الاحتجاج بالآية
احتجّ أهل السنّة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه ؛ لأنّه سبحانه ـ عزوجل ـ ميّز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنّ الغرض من قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) بيان تميّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنّه إنّما يستحق الإلهية ، والمعبوديّة ؛ لكونه خالقا ، وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقا لشيء ؛ وجب أن يكون إلها معبودا ، ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد.
أجاب المعتزلة من وجوه :
الأول : المراد من قوله تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق
__________________
(١) البيتان للمجنون. ينظر : ديوانه ص ١٠٦ ، ونسب للعباس بن الأحنف في ديوانه ص ١٦٨ ، تخليص الشواهد ص ٦١٤١ الدرر ١ / ٣٠ ، شرح التصريح ١ / ١٣٣ ، المقاصد النحوية ١ / ٤٣١ ، أوضح المسالك ١ / ١٤٧ ، شرح الأشموني ١ / ٦٩ ، شرح ابن عقيل ص ٨٠ ، ٨١ ، العيني ١ / ٤٣١ ، الهمع ١ / ٩١ ، الدر المصون ٤ / ٣١٩.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٩٩.