قلت : قد يتأيّد ما فعله حفص بما في بعض مصاحف الصحابة : «ولم يجعل له عوجا ، لكن جعله قيّما». وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على «عوجا» ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفا ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت.
ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيّ ، يعني الإطلاق. ثم قال : «وفي ذلك نظر ـ أي في إبدال التنوين ألفا ـ فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلّ على غرضه ، وهو أنه واقف بنيّة الوصل». انتهى.
وقال الأهوازيّ : «ليس هو وقفا مختارا ، لأنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا». قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلّا أنّها مردودة لأنّها على خلاف الأصل ، وقد تقدّم تحقيقه.
وفعل حفص في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتة لطيفة نافية لوهم مخلّ. فمنها : أنّه كان يقف على «مرقدنا» ، ويبتدىء : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢]. قال : لئلّا يتوهّم أنّ «هذا» صفة ل «مرقدنا» فالوقف يبين أنّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدىء بكلام غيرهم. قيل : هم الملائكة. وقيل : المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون «هذا» صفة ل «مرقدنا» فيفوت ذلك.
ومنها : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) [القيامة : ٢٧]. كان يقف على نون «من» ويبتدىء «راق» قال : «لئلّا يتوهّم أنها كلمة واحدة على فعّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرق فهو مرّاق».
ومنها : (بَلْ رانَ) [المطففين : ١٤] كان يقف على لام بل ، ويبتدىء «ران» لما تقدّم.
قال المهدويّ : «وكان يلزم حفصا مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجه من الاحتجاج إلا اتباع الأثر في الرواية». قال أبو شامة : «أولى من هذه المواضع بمراعاة الوقف عليها : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] ، ينبغي الوقف على «قولهم» لئلّا يتوهّم أنّ ما بعده هو المقول» ، وكذا (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) [غافر : ٦ ، ٧] ينبغي أن يعتنى بالوقف على «النّار» لئلا تتوهّم الصفة.
قال شهاب الدين : وتوهّم هذه الأشياء من أبعد البعيد. وقال أبو شامة أيضا : «ولو لزم الوقف على اللام والنون ليظهرا للزم ذلك في كلّ مدغم». يعني في (بَلْ رانَ) وفي (مَنْ راقٍ).
فصل
المعنى : ولم يجعل له عوجا [قيّما] ، أي مختلفا.