في تقرير النّظم وجوه :
الأول : أنه تعالى ، لمّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء ، قال : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية أي : قل لهؤلاء : هذا الدّين الحقّ من عند الله تعالى ، فإن قبلتموه ، عاد النّفع عليكم ، وإن لم تقبلوه ، عاد الضّرر إليكم ، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى.
والثاني : أنّ المراد أنّ الحقّ ما جاء من عند الله ، والحقّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء ، ولا أطردهم ، ولا ألتفت إلى الرؤساء ، [ولا أنظر إلى](١) أهل الدنيا.
والثالث : أن يكون المراد هو أنّ الحقّ الذي جاء من عند الله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وأنّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحد ممّن آمن وعمل صالحا ؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار.
فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمّ ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلّا سقوط حرمتهم ، وهذا ضرر قليل.
وأما عدم طردهم ، فإنّه يوجب بقاء الكفّار [على الكفر وهذا ضرر عظيم؟.
فالجواب : سلّمنا أنّ عدم طردهم يوجب بقاء الكفّار على الكفر](٢) ، لكن من ترك الإيمان ؛ حذرا من مجالسة الفقراء ، فإنّ إيمانه ليس بإيمان ، بل هو نفاق ؛ فيجب على العاقل ألّا يلتفت إلى من هذا حاله.
الرابع : قل يا محمد للّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : يا أيّها الناس ، من ربكم الحقّ ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضّلال ، ليس إليّ من ذلك شيء ، وقد بعثت إلى الفقراء والأغنياء (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهذا على طريق التهديد والوعيد ، كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] والمعنى : لست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم ، فآمنوا ، وإن شئتم ، فاكفروا.
قال ابن عبّاس (٣) : معنى الآية : من شاء الله له الإيمان ، آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر.
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية صريحة في أنّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد.
قال ابن الخطيب (٤) : وهذه الآية من أقوى الدّلائل على صحّة مذهب أهل السّنة ؛ لأنّ الآية صريحة في أنّ حصول الإيمان ، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر ، وصريح العقل يدلّ على أنّ الفعل الاختياريّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، وبدون الاختيار.
__________________
(١) زيادة من ب.
(٢) سقط من ب.
(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٥٩.
(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠١.