فصل في المراد بالتسيير
ليس في الآية ما يدلّ على أنّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيّن ذلك الموضع لخلقه.
والحقّ أنّ المراد أنّه يسيّرها إلى العدم ؛ لقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧] (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦] (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشّجر «بارزة» ظاهرة ليس عليها ما يسترها ؛ كما قال : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧].
وقال عطاء : «بارزة» أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٤] (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] وقال : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١].
(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوّلين والآخرين أحدا ، إلّا وجمعناهم لذلك اليوم.
قوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا).
(صَفًّا) : حال من مرفوع «عرضوا» وأصله المصدرية ، يقال منه : صفّ يصفّ صفّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفّين ، واختلف هنا في «صفّا» هل هو مفرد وقع موقع الجمع ؛ إذ المراد صفوفا ؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : «يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد صفوفا» (١) وفي حديث آخر : «أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا ، أنتم منها ثمانون» (٢).
ويؤيده قوله تعالى : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي أطفالا. وقيل : ثمّ حذف ، أي : صفّا صفّا ، ونظيره قوله في موضع : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]. وقال في آخر: (يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] يريد : صفّا صفّا ؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفّا [واحدا] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوال ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] فتارة يكونون فيه صفّا واحدا ، وتارة صفوفا.
وقيل : صفّا أي : قياما ؛ لقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] أي قياما.
__________________
(١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٤ / ٤٠٧).
(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٨٩) كتاب صفة الجنة : باب ما جاء في صفة أهل الجنة حديث (٢٥٤٦) وابن ماجه (٤٢٨٩) من حديث بريدة وقال الترمذي حديث حسن.