فصل في أدب موسى ـ عليهالسلام ـ في تعلّمه من الخضر
دلّت هذه الآية على أنّ موسى ـ عليهالسلام ـ راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلّم من الخضر.
منها : أنه جعل لنفسه تبعا له في قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ).
ومنها : أنّه استأذن في إثبات هذه التبعيّة ؛ كأنّه قال : تأذن لي على أن أجعل نفسي تبعا لك ، وهذه مبالغة عظيمة في التواضع.
ومنها : قول ه «على أن تعلمني» وهذا إقرار منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم.
ومنها : قوله : (مِمَّا عُلِّمْتَ) وصيغة «من» للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علّم ، وهذا أيضا إقرار بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساويا لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من الجزء ، ممّا علّمت.
ومنها : أن قوله : (مِمَّا عُلِّمْتَ) اعتراف بأنّ الله تعالى علّمه ذلك العلم.
ومنها : قوله «رشدا» طلب منه الإرشاد والهداية.
ومنها أنّ قوله : (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليّ عند تعليمك إيّاي شبيها بإنعام الله عليك في هذا التعليم.
ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيّد بشيء دون شيء.
ومنها : أنه ثبت [في الأخبار](١) أنّ الخضر عرف أولا أنّه موسى صاحب التّوراة ، وهو الرجل الذي كلّمه الله من غير واسطة ، وخصّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنّه ـ عليهالسلام ـ مع هذه المناصب الرفيعة والدّرجات العالية الشّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ؛ وذلك يدلّ على كونه ـ عليهالسلام ـ آتيا في طلب العلم أعظم أبواب المبالغة في التواضع ، وهذا هو اللائق به ؛ لأنّ كلّ من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدّ ، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشدّ.
ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) فأثبت أوّلا كونه تبعا ، ثم طلب منه ثانيا أن يعلّمه ، وهذا منه ابتداء بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التّعليم.
ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) لم يطلب على المتابعة إلّا التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلّا طلب العلم.
__________________
(١) في ب : بالأخبار.