فإن قلنا : إنّها المفسرة فلا محلّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّها مجرورة المحل بدلا من «الرّوح» لأنّ التوحيد روح تحيا به النفوس.
الثاني : أنّها في محل جرّ على إسقاط الخافض ؛ كما هو مذهب الخليل.
الثالث : أنّها في محلّ نصب على إسقاطه ؛ وهو مذهب سيبويه (١).
والأصل : بأن أنذروا ؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.
قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام ؛ يقال: أنذرته ، وأنذرته بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد.
وقوله : «فاتّقون» التفات إلى التكلم بعد الغيبة.
فصل
وجه النّظم : أنّ الله ـ تعالى ـ لما أجاب الكفار عن شبهتهم ؛ تنزيها لنفسه ـ سبحانه وتعالى ـ عما يشركون ؛ فكأنّ الكفار قالوا : هب أنّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟.
فأجاب الله ـ تعالى ـ بقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وتقرير هذا الجواب : أنّه ـ تعالى ـ ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنّهم إن فعلوا ، فازوا بخير الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضرب مخصوص بهذه المعارف من دون سائر الخلق.
فصل
روى عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : يريد ب «الملائكة» جبريل وحده(٢).
وقال الواحديّ : يسمّى الواحد بالجمع ؛ إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدّما جائز ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا) [القمر : ١٩] ، و (إِنَّا أَنْزَلْنا) [النساء : ١٠٥] ، و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) [الحجر : ٩].
والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمهالله تعالى : الرحمة (٣) ، وقال أبو عبيدة : إنّ الروح ههنا جبريل عليهالسلام.
__________________
(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٩ / ١٧٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٧٨) عن الحسن وقتادة والبغوي (٣ / ٦١) عن قتادة.