وعلى هذا الحرف عوّلوا في قولهم : البسائط يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنّ النطفة جسم مركبّ من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوق ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاء الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعيّن أمرا دائما ؛ علمنا أنّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.
الوجه الثاني : أنّ النطفة بتقدير أنّها جسم مركب من أجسام مختلفة الطبائع إلّا أنّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا.
وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبّر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنّ مدبّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنّ مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم.
قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ) متعلق ب «خلق» و«من» لابتداء الغاية.
والنّطفة : القطرة من الماء ؛ نطف رأسه ماء ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماء الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤة ، ومنه : صبي منطّف إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلة نطوف إذا جاء فيها المطر ، والنّاطف : ما سال من المائعات يقال : نطف ينطف ، أي : سال فهو ناطف ، وفلان ينطف بسوء.
قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاء تدل على التعقيب ، ولا سيمّا وقد وجد معها «إذا» التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيما مبينا لم يعقب خلقه من نطفة ، إنما توسّطت بينهما وسائط كثيرة.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه ، كقوله تعالى : (أَعْصِرُ خَمْراً).
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.