وفيهن ، ثم جمع بين الكل ، وأزال الحائل ، والمانع ، فإنّ هذا بالاتّفاق حسن من الله ـ تعالى ـ وقبيح من كلّ الخلق ، فعلمنا أنّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدّلائل القطعيّة اليقينيّة ، وقد ثبت بالبراهين القطعيّة امتناع الولد على الله ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعيّة.
وأمّا أفعال العباد فقد ثبت بالدّلائل القطعيّة أنّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر.
ثم قال : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) والمثل السّوء : عبارة عن الصّفة السوء ، وهي احتياجهم إلى الولد ، وكراهيتهم الإناث خوفا من الفقر والعار (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، أي : الصّفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزّها عن الولد.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : مثل السّوء : النّار ، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١).
فإن قيل : كيف جاء (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) مع قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ).
فالجواب : أنّ المثل الذي يضربه الله حقّ وصدق ، والذي يذكره غيره باطل.
قال القرطبي (٢) في الجواب : «إن قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) ، أي : الأمثال التي توجب الأشباه ، والنّقائص ، أي : لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبها بالخلق ، والمثل الأعلى : وصفه بما لا شبيه له ولا نظير».
قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) الآية لما حكى عن القوم عظيم كفرهم ، وقبيح قولهم ، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارا للفضل ، والرحمة ، والكرم.
قالت المعتزلة : هذه الآية دالّة على أنّ الظلم والمعاصي ليست فعلا لله تعالى ، بل تكون أفعالا للعباد ؛ لأنه ـ تعالى ـ أضاف ظلم العباد إليهم ، فقال ـ عزوجل ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) ، وأيضا : لو كان خلقا لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلما من الله ، ولما منع الله ـ تعالى ـ العباد من الظلم ، فبأن يكون منزّها عن الظلم أولى ؛ ولأنّ قوله تعالى : «بظلمهم» الباء فيه تدلّ على العليّة ، كما في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر : ٤]. وقد تقدّم الجواب مرارا.
فصل
ظاهر الآية يدلّ على أنّ إقدام الناس على الظّلم ؛ يوجب إهلاك جميع الدّواب ، وذلك غير جائز ؛ لأن الدّابّة لمّا لم يصدر عنها ذنب ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النّاس؟.
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧٣).
(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٧٩.