قال شهاب الدّين (١) : «الزمخشريّ لم يجعل النّصب لأجل العطف على محلّه إنّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتّحاد الفاعل ، كما صرح به فيما تقدّم آنفا ، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلّة لا غير ، يعني : أنهما علّتان ، كما أنّ «لتبيّن» علة ، ولئن سلمنا أنه نصب عطفا على المحل ، فلا يضر ذلك ، وقوله : «لأنّ محله ليس نصبا» ممنوع ، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار ، والمجرور النصب ؛ لأنه فضلة ، إلا أن تقوم مقام مرفوع ، ألا ترى إلى تخريجهم قوله : «وأرجلكم» في قراءة النصب على العطف على محل «برءوسكم» ، ويجيزون : مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس ، وعدمه لا في أصل المسألة ، وهذا بحث حسن».
فصل
قال الكلبيّ : وصف القرآن بكونه هدى ، ورحمة لقوم يؤمنون ، يدل على أنّه ليس كذلك في حق الكلّ ، لقوله في أوّل البقرة : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، وإنّما خص المؤمنين بالذكر ؛ لأنّهم هم المنتفعون به ، كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ؛ لأنّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط (٢).
قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٦٧)
قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الآية اعلم أنّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيّات ، والنبوات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة : تقرير الإلهيّات ، فلهذا السّبب كلّما امتد الكلام في فصل من الفصول ، عاد إلى تقرير الإلهيّات ، فههنا لمّا امتد الكلام في وعيد الكفار ، عاد إلى تقرير الإلهيّات ، فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقد تقدّم تقرير هذه الدّلائل.
وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع إنصاف وتدبّر ؛ والمراد : سماع القلوب لا سماع الآذان.
والنوع الثاني من الدّلائل : الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات.
قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ) والعبرة : العظة.
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي «نسقيكم» بضمّ
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٤٠.
(٢) ينظر : تفسير الرازي (٢ / ٥١).