وقد حصر جمع من الطبيعيّين (١) العلّيّة في المادّة فقط ، منكرين للعلل الثلاث الاخر.
ويدفعه أوّلا : أنّ المادّة حيثيّة ذاتها القوّة والقبول ، ولازمها الفقدان ، ومن الضروريّ أنّه لا يكفي لإعطاء الفعليّة وإيجادها الملازم للوجدان ، فلا يبقي للفعليّة إلّا أن توجد من غير علّة ، وهو محال.
وثانيا : أنّه قد تقدّم أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد (٢) ، وإذا كانت المادّة شأنها الإمكان والقبول فهي لا تصلح لأن يستند إليها هذا الوجوب المنتزع من وجود المعلول ، وحقيقته الضرورة واللزوم وعدم الانفكاك ، فوراء المادّة أمر لا محالة يستند إليه وجوب المعلول ووجوده ، وهو العلّة الفاعليّة المفيضة لوجود المعلول.
وثالثا : أنّ المادّة ذات طبيعة واحدة لا تؤثّر إن أثّرت إلّا أثرا واحدا متشابها ، وقد سلّموا ذلك ، ولازمه رجوع ما للأشياء من الاختلاف إلى ما للمادّة من صفة الوحدة ذاتا وصفة ، وهو كون كلّ شيء عين كلّ شيء ، وضرورة العقل تبطله.
وأمّا العلّة الصوريّة فهي : الصورة ـ بمعنى ما به الشيء هو ما هو بالفعل ـ بالنسبة إلى الشيء المركّب منها ومن المادّة ، لضرورة أنّ للمركّب توقّفا عليها. وأمّا الصورة بالنسبة إلى المادّة فليست علّة صوريّة لها ، لعدم كون المادّة مركّبة منها ومن غيرها ، مفتقرة إليها في ذاتها ، بل هي محتاجة إليها في تحصّلها الخارج من ذاتها ، ولذا كانت الصورة شريكة العلّة بالنسبة إليها ومحصّلة لها كما تقدّم بيانه (٣).
واعلم أنّ الصورة المحصّلة للمادّة ربّما كانت جزءا من المادّة بالنسبة إلى صورة لاحقة ، ولذا ينتسب ما كان لها من الأفعال والآثار ـ نظرا إلى كونها صورة محصّلة للمادّة ـ إلى الصورة الّتي صارت جزءا من المادّة بالنسبة إليها ، كالنبات
__________________
(١) وهم المادّيّون المنكرون لما وراء الطبيعة ووجود الغاية ، فإنّهم يعتقدون أنّه ليس للحوادث الواقعة في العالم فاعل ولا غاية. ويعبّر عنهم ب «نيچراليسم Naturalism».
(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.
(٣) في الفصل السادس وخاتمة الفصل السابع من المرحلة السادسة.