تعالى أن يجعله رضيّا ؛ فدلّ على أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى.
فإن قيل : المراد : أن يلطف به بضروب الألطاف فيختار ما يصير به رضيّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى.
فالجواب من وجهين :
الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيّا ؛ لكان ذلك مجازا ، وهو خلاف الأصل.
الثاني : أنّ جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى ، لا يجوز الإخلال به ، وما كان واجبا لا يجوز طلبه بالدّعاء والتضرّع.
قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)
قوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ).
اختلفوا في المنادي ، فالأكثرون على أنّه هو الله تعالى ؛ لأنّ زكريّا إنّما كان يخاطب الله تعالى ، ويسأله بقوله : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، وبقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) وبقوله : (فَهَبْ لِي) ، وبقوله بعده : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ، فوجب أن يكون هذا النداء من الله تعالى ، وإلّا لفسد [المعنى و](١) النّظم ، وقيل : هذا النداء من الملك ؛ لقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩].
وأيضا : فإنه لمّا قال : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم :٩].
وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله ؛ فوجب أن يكون كلام الملك.
ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أنّه يحصل النداءان : نداء الله تعالى ، ونداء الملائكة.
ويمكن أن يكون قوله : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ) من كلام الله تعالى ، كما سيأتي بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
__________________
(١) زيادة من أ.