تكون «أيّنا» موصولة بمعنى (الذي) وبنيت لأنها قد أضيفت وحذف صدر صلتها و«أشدّ» خبر مبتدأ محذوف ، والجملة من ذلك المبتدأ وهذا (١) الخبر صلة ل «أيّ» ، و«أيّ» وما في خبرها في محل نصب مفعولا به كقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ)(٢) في أحد وجهيه كما تقدم(٣). وأراد بقوله : «أيّنا» نفسه ـ لعنه الله ـ وموسى (٤) ، لقوله (٥) : (آمَنْتُمْ لَهُ)(٦) و (أَشَدُّ عَذاباً) أي : أنا على إيمانكم به أو ربّ موسى على ترك الإيمان به ، (وَأَبْقى) أي : أدوم (٧).
فإن قيل (٨) : إنّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيّة عظيمة ، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون ، وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى من شر (٩) ذلك الثعبان ، فمع قرب عهده بذلك ، وعجزه عن (١٠) دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ، ويستهزىء بموسى ، ويقول : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً)؟
فالجواب : يجوز أن يقال : إنّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه ، وترويجا لأمره. ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أنّ العاجز (١١) قد يفعل أمثال هذه الأشياء ، ويدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشدّ من عذاب البشر ، ثم إنه أنكر ذلك.
وأيضا : فقد كان عالما بكذبه في قوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) لأنه علم أنّ موسى ما خالطهم البتة ، وما لقيهم ، وكان يعرف من سحرته ويعرف أستاذ كل واحد من هو ، وكيف حصّل ذلك العلم ، ثم إنه (١٢) مع ذلك قال هذا الكلام ، فثبت أن سبيله في ذلك (١٣) ما ذكرناه ، وقال (١٤) ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في النهار سحرة ، وفي آخره شهداء (١٥).
قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(٧٣)
قوله : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي لن نختارك على ما جاءنا من
__________________
(١) هذا : سقط من ب.
(٢) [مريم : ٦٩].
(٣) في أوائل السورة.
(٤) في ب : وموسى عليه الصلاة والسلام.
(٥) في ب : بقوله.
(٦) سبق إلى تقرير هذا المعنى العلامة الزمخشري ٢ / ٤٤١.
(٧) انظر تفسير البغوي ٥ / ٤٤٣.
(٨) من هنا نقله ابن عادل عن تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ٨٨.
(٩) شر : سقط من ب.
(١٠) في الأصل : و. وهو تحريف.
(١١) في ب : الفاجر. وهو تصحيف.
(١٢) أنّه : سقط من الأصل.
(١٣) في ب : سبيل ذلك. وهو تحريف.
(١٤) في ب : فصل قال.
(١٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ٨٨.