فصل (١)
اعلم أنّ القوم لمّا قالوا له (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) طلبوا منه الاعتراف بذلك ، ليقدموا على إيذائه ، فقلب الأمر عليهم وقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وكان قد علق الفأس في رقبته(٢) ، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان ، وقال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) واعلم أنّ للناس هاهنا قولان :
الأول : قول كافة المحققين ، وهو أنّ قول إبراهيم ـ عليهالسلام (٣) ـ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) من قبيل التعريض ، وهو من وجوه :
أحدها : أنّ قصد إبراهيم ـ عليهالسلام (٦) ـ تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ (٤) ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم ، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ولا يقدر هو إلا على خرمشة (٥) فاسدة : أأنت كتبت هذا ، فقلت له : بل كتبته أنت ، وكأن قصدك بهذا تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش ، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر.
وثانيها : أنّ إبراهيم ـ عليهالسلام (٦) ـ غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة ، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها (٧) ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.
وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم ، فإنّ حق من يعبد ، ويدعى إلها أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري (٨).
ورابعها : ما تقدم عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله «كبيرهم» ثم يبتدىء فيقول : (هذا فَسْئَلُوهُمْ). والمعنى : بل فعله كبيرهم ، وعنى نفسه ، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم ، وأنه كناية عن غير مذكور ، أي : فعله من فعله و«كبيرهم» ابتداء كلام.
وخامسها : قال الطّيبي (٩) معناه على التقديم والتأخير ، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا
__________________
(١) هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ببعض من التصرف ٢٢ / ١٨٥.
(٢) في ب : زقبته. وهو تصحيف.
(٣) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٤) في الأصل : تعريض.
(٥) الخرمشة : إفساد الكتاب والعمل ، اللسان (خرمش).
(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٧) في الأصل : وحكمه لهما. وهو تحريف.
(٨) انظر الكشاف ٣ / ١٥.
(٩) في الأصل : القسي ، وفي ب : الليث. والصواب ما أثبته. وهو الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي ـ بكسر الطاء ـ الإمام المشهور العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان. صنف شرح الكشاف ، التفسير ، التبيان في المعاني والبيان ، شرحه ، شرح المشكاة. مات سنة ٥٤٠ ه. بغية الوعاة ١ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣.