الكلام ، وأنه مسوق للتعجّب ، ووجه آخر : وهو أن يكون «نكلّم» حكاية حال ماضية ، أي : كيف عهد قبل عيسى أن يكلم النّاس في المهد حتى نكلمه نحن؟.
وأمّا «من» فالظاهر أنّها موصولة بعنى الذي ، وضعف جعلها نكرة موصوفة ، أي : كيف نكلّم شخصا ، أو مولودا ، وجوّز الفرّاء والزجاج (١) فيها أن تكون شرطيّة ، و«كان» بمعنى «يكن» وجواب الشرط : إمّا متقدّم ، وهو : (كَيْفَ نُكَلِّمُ) أو محذوف ؛ لدلالة هذا عليه ، أي : من يكن في المهد صبيا ، فكيف نكلّمه؟ فهي على هذا : مرفوعة المحلّ بالابتداء ، وعلى ما قبله : منصوبته ب «نكلّم» وإذا قيل بأنّ «كان» زائدة ؛ هل تتحمّل ضميرا ، أم لا؟ فيه خلاف ، ومن جوّز ، استدلّ بقوله : [الوافر]
٣٦٠٥ ـ فكيف إذا مررت بدار قوم |
|
وجيران لنا كانوا كرام (٢) |
فرفع بها الواو ، ومن منع ، تأوّل البيت ؛ بأنّها غير زائدة ، وأنّ خبرها هو «لنا» قدّم عليها ، وفصل بالجملة بين الصفة ، والموصوف.
وأبو عمرو يدغم الدال في الصاد ؛ والأكثرون على أنه إخفاء.
فصل في مناظرة مريم لقومها
لمّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت ، وأشارت إلى عيسى ، أن كلّموه.
قال ابن مسعود : لمّا لم يكن لها حجّة ، أشارت إليه ؛ ليكون كلامه حجّة لها ، أي : هو الذي يجيبكم ، إذا ناطقتموه (٣).
قال السديّ : لما أشارت إليه ؛ ليكون كلامه حجّة ، غضبوا ، وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ من زناها ، و (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، والمهد : هو حجرها (٤).
وقيل : هو المهد بعينه.
والمعنى : كيف نكلّم صبيّا سبيله أن ينام في المهد؟!.
قال السديّ : فلما سمع عيسى ـ صلوات الله عليه ـ كلامهم ، وكان يرضع ، ترك الرّضاع ، وأقبل عليهم بوجهه ، واتّكأ على يساره ، وأشار بسبّابة يمينه ، فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ)(٥).
وقيل : كلّمهم بذلك ، ثم لم يتكلّم ؛ حتى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان ، وقال وهب : أتاها زكريّا ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند مناظرتها اليهود ، فقال لعيسى : انطق بحجّتك ، إن كنت أمرت بها ، فقال عيسى عند ذلك وهو ابن أربعين يوما ـ وقال مقاتل : بل هو يوم ولد ـ : إنيّ عبد الله ، أقرّ على نفسه بالعبوديّة لله ـ عزوجل ـ أول ما تكلّم لئلا يتّخذ إلها ، وفيه فوائد :
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٣٢٨.
(٢) تقدم.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٤).
(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٨).
(٥) ينظر : المصدر السابق.