الأولى : أن ذلك الكلام في ذلك الوقت ، كان سببا لإزالة الوهم الذي ذهب إليه النّصارى ؛ فلا جرم : أوّل ما تكلّم ، قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ).
الثانية : أنّ الحاجة في ذلك الوقت ، إنّما هو نفي تهمة الزّنا عن مريم ، ثم إنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ لم ينصّ على ذلك ، وإنّما نصّ على إثبات عبوديّة نفسه ، كأنّه جعل إزالة التّهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التّهمة عن الأمّ ؛ فلهذا : أوّل ما تكلّم إنما تكلّم بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ).
الثالثة : أنّ التكلّم بإزالة التّهمة عن [الله تعالى](١) يفيد إزالة التّهمة عن الأمّ ؛ لأنّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية ، والمرتبة العظيمة ، أمّا التكلّم بإزالة التّهمة عن الأمّ ، فلا يفيد إزالة التّهمة عن [الله تعالى](٢) ، فكان الاشتغال بذلك هاهنا أولى.
فصل في إبطال قول النصارى
في إبطال قول النصارى وجوه (٣) :
الأول : أنّهم وافقونا على أنّ ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ لم تحلّ في ناسوت عيسى ، بل قالوا : الكلمة حلّت فيه ، والمراد من الكلمة العلم ، فنقول : العلم ، لما حصل لعيسى ، ففي تلك الحالة : إمّا أن يقال : إنّه بقي في ذات الله تعالى ، أو ما بقي.
فإن كان الأوّل ، لزم حصول الصّفة الواحدة في محلّين ، وذلك غير معقول ، ولأنّه لو جاز أن يقال : العلم الحاصل في ذات عيسى هو العلم الحاصل في ذات الله بعينه ، فلم لا يجوز في حقّ كلّ واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكلّ واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني ، لزم أن يقال : إنّ الله تعالى لا يبقى عالما بعد حلول علمه في عيسى ، وذلك ممّا لا يقوله عاقل.
قال ابن الخطيب (٤).
وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النّصارى ، فقلت له : هل تسلّم أنّ عدم الدّليل لا يدلّ على عدم المدلول ، أم لا؟ فإن أنكرت ، لزمك ألا يكون الله قديما ؛ لأنّ دليل وجوده هو العالم ، فإذا لزم من عدم الدّليل عدم المدلول ، لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلّمت أنّه لا يلزم من عدم الدّليل عدم المدلول ، فنقول : إذا جوّزت اتحاد كلمة الله بعيسى أو حلولها فيه ، فكيف عرفت أنّ كلمة الله تعالى ما حلّت في زيد وعمرو؟ بل كيف عرفت أنّها ما حلّت في هذه الهرّة ، وفي هذا الكلب؟ فقال : إنّ هذا السّؤال لا يليق بك ؛ لأنّا إنّما أثبتنا ذلك الاتحاد ، أو الحلول ، بناء على ما
__________________
(١) في ب : أبيه.
(٢) في ب : أبيه.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨١.
(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨١.