وأمّا المسلمون ، فاحتجّوا بالعقل على أنه تكلّم ، فقالوا : لو لا كلامه الذي دلّهم على براءة أمّه عن الزّنا ، لما تركوا إقامة الحدّ عليها ، ففي تركهم لذلك دلالة على أنّه ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في المهد.
وأجابوا عن الشّبهة الأولى بأنّه ربّما كان الحاضرون عند كلامه قليلين ؛ فلذلك لم يشتهر.
وعن الثاني : لعلّ اليهود ما حضروا هناك ، وما سمعوا كلامه ، وإنّما سمع كلامه أقاربه ؛ لإظهار براءة أمّه ؛ فلذلك لم يشتغلوا بقتله.
قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٣٦)
قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) : يجوز أن يكون «عيسى» خبرا ل «ذلك» ويجوز أن يكون بدلا ، أو عطف بيان ، و (قَوْلَ الْحَقِّ) خبره ، ويجوز أن يكون (قَوْلَ الْحَقِّ) خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو قول ، و (ابْنُ مَرْيَمَ) يجوز أن يكون نعتا ، أو بدلا ، أو بيانا ، أو خبرا ثانيا.
وقرأ (١) عاصم ، وحمزة ، وابن عامر «قول الحقّ» بالنّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدّم ، قال الزمخشري ـ رحمهالله ـ : «وارتفاعه على أنّه خبر ، بعد خبر ، أو بدل». قال أبو حيّان : «وهذا الذي ذكره لا يكون إلّا على المجاز في قول : وهو أن يراد به كلمة الله ؛ لأنّ اللفظ لا يكون الذّات».
والنّصب : يجوز فيه أن يكون مصدرا مؤكّدا لمضمون الجملة ؛ كقولك : «هو عبد الله الحقّ ، لا الباطل» أي : أقول قول الحقّ ، فالحقّ الصّدق ، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقّ ؛ كقوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) [الأحقاف : ١٦] أي : الوعد الصّدق ، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح ، إن أريد بالحقّ الباري تعالى ، و«الّذي» نعت للقول ، إن أريد به عيسى ، وسمّي قولا كما سمّي كلمة ؛ لأنه عنها نشأ.
وذلك لأنّ الحق هو اسم الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قول الحقّ.
وقيل : هو منصوب بإضمار «أعني» وقيل : هو منصوب على الحال من «عيسى» ويؤيّد هذا ما نقل عن الكسائيّ في توجيه الرفع : أنه صفة لعيسى.
وقرأ الأعمش «قال» برفع اللّام ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا ، وقرأ الحسن «قول» بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام (قَوْلُهُ الْحَقُ) [الأنعام : ٧٣] ، وهي مصادر ل
__________________
(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٤٠٩ ، والنشر ٢ / ٣١٨ ، والحجة ٤٤٣ ، والتيسير ١٤٩ والحجة للقراء السبعة ٥ / ٢٠١ ، وإعراب القراءات ٢ / ١٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٣٦ والشواذ ٨٤ ، والبحر ٦ / ١٧٨ ، ١٧٩.