بِجَناحَيْهِ)(١) لأن القلوب لا تكون في غير الصدور ، أولها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى في الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى (٢) هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك. (فقولك : الذي بين فكيك)(٣) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهوا ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا (٤). وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه ، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير ، وليس من مواضع فصله ، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول : السيف ضربتك به ، لا ضربت به إياك(٥).
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)(٦)(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ)(٧) وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل (٨) هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئا في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده (٩).
وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر (١٠) ، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(١١) ، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر (١٢). وفي محل العقل خلاف مشهور ، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني ، وكقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(١٣)(١٤). وقد تقدم أن في قوله : «بأفواههم» فائدة زيادة على التأكيد.
__________________
(١) من قوله تعالى : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» [الأنعام : ٣٨].
(٢) العمى : سقط من ب.
(٣) ما بين القوسين سقط من ب.
(٤) الكشاف ٣ / ٣٦.
(٥) البحر المحيط ٦ / ٣٧٨.
(٦) [الممتحنة : ١].
(٧) [النساء : ٣١].
(٨) في : سقط من الأصل.
(٩) الدر المصون ٥ / ٧٧.
(١٠) آخر : سقط من ب.
(١١) [ق : ٣٧].
(١٢) الفخر الرازي ٢٣ / ٤٦.
(١٣) من قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) [آل عمران : ١٦٧].
(١٤) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٩٩ ، وفيه الآية مقدمة على المثال. والآية فيه(بِأَفْواهِكُمْ)من قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور : ١٥] ، ومن قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) [الأحزاب : ٤].