أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له ، وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم ، فنسبوه إلى الجنون لذلك.
والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لئلا ينقادوا له ، فذكروا ذلك استحقارا له (١).
ثم إنه ـ تعالى ـ بعد أن عد هذه الوجوه ، ونبه على فسادها قال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالصدق والقول الذي لا يخفى صحته على عاقل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنهم تمسكوا بالتقليد ، وعلموا أنهم لو أقروا بمحمد لزالت رياستهم ومناصبهم ، فلذلك كرهواه (٢).
فإن قيل (٣) قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يدل على أن أقلهم لا يكرهون الحق.
فالجواب : أنه كان منهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه ، وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق (٤).
قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الجمهور على كسر الوا ولا لتقاء الساكنين وابن وثاب بضمها (٥) تشبيها بواو الضمير كما كسرت واو الضمير تشبيها بها (٦).
فصل
قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة : الحق هو الله. أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل (٧) وقيل : لو اتبع مرادهم ، فيسمي لنفسه شريكا وولدا كما يقولون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(٨).
وقال الفراء (٩) والزجاج (١٠) : المراد بالحق : القرآن. أي : نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وهو كقوله : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (١١) (١٢).
__________________
(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.
(٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢.
(٣) في ب : قول. وهو تحريف.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١١٢ ـ ١١٣.
(٥) المختصر (٩٨) ، المحتسب ٢ / ٩٧ ، تفسير ابن عطية ١٠ / ٣٨٥ ، البحر المحيط ٦ / ٤١٤.
(٦) في قوله تعالى : «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» [البقرة : ١٦] على أن بعضهم قد شبه واو الجمع في «اشتروا» بواو «لَوِ اتَّبَعَ» هذه وحركها بالكسر ، فقرأ يحيى بن يعمر «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» * بكسر الواو. انظر المختصر (٢) ، المحتسب ٢ / ٩٧.
(٧) انظر البغوي ٦ / ٣٠.
(٨) المرجع السابق.
(٩) قال الفراء : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» يقال : إن «الحق» هو الله. ويقال : إنه التنزيل ، لو نزل بما يريدون «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ») معاني القرآن ٢ / ٢٣٩.
(١٠) قال الزجاج : (وقوله : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» جاء في التفسير أن «الحق» هو الله ـ عزوجل ـ ويجوز أن يكون «الحق» الأول في قوله : «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» التنزيل ، أي : بالتنزيل الذي هو الحق ، ويكون تأويل : «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» أي : لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت السموات والأرض) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ١٩.
(١١) [الأنبياء : ٢٢].
(١٢) انظر البغوي ٦ / ٣٠ ـ ٣١.