فصل
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس.
ومعنى قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي : إذ أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصنا ، كقوله عزوجل : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١) أي : إذ (٢) كنتم مؤمنين (٣). وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم ترد التحصن بغت طوعا ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه (٤). وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن (٥) لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)(٦) (مفهوم) (٧) ومنه قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ (٨) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٩) والقصر(١٠) لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا (١١). وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء(١٢) لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا (١٣) ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن. والتحصن : التعفف.
قوله : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المكره ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : (لهنّ والله) (١٤).
وقال ابن الخطيب : فيه وجهان :
أحدهما : غفورا (١٥) لهنّ ، لأنّ الإكراه (يزيل الإثم) (١٦) والعقوبة عن المكره فيما فعل.
__________________
(١) [آل عمران : ١٣٩].
(٢) في ب : إذ.
(٣) انظر البغوي ٦ / ١١٣.
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٢.
(٥) في ب : ويمكن.
(٦) [البقرة : ٢٢٩].
(٧) مفهوم : تكملة من الفخر الرازي.
(٨) في الأصل : في سبيل الله. وهو تحريف.
(٩) [النساء : ١٠١].
(١٠) في ب : فالقصر.
(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٢٢٢.
(١٢) في الأصل : على البغاء إن أردن تحصنا.
(١٣) قال الزجاج : (والمعنى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن أردن تحصنا ، ومعنى : «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» أي لا تكرهوهن على البغاء البتة ، وليس المعنى : لا تكرهوهن إن أردن تحصنا وإن لم يردن فليس لنا أن نكرههن) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٠.
(١٤) ما بين القوسين مكرر في الأصل.
(١٥) في ب : لغفور.
(١٦) ما بين القوسين سقط من ب.