قوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) الظاهر عطفه على «برزخا» (١).
وقال الزمخشري : (فإن قلت : (حِجْراً مَحْجُوراً)) (٢) ما معناه؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحدا من البحرين يقول لصاحبه : حجرا محجورا كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا. كما قال : «لا يبغيان» (٣). وهي من أحسن الاستعارات (٤).
فعلى ما قاله يكون منصوبا بقول مضمر (٥). فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :
أحدهما : أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون (٦).
الثاني : لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذبا والآخر ملحا ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف ؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوما ، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال.
فالجواب (٧) : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي : حائلا (٨) من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة (٩). ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلا في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب.
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤)
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) الآية.
هذا نوع خامس ، وفي هذا الماء قولان :
أحدهما : أنه النطفة ، والثاني : أنه الماء الذي تسقى به الأرض فيتولد منه (١٠) الأغذية ، ويتولد من الأغذية النطفة ، كما تقدم في قوله : (وَجَعَلْنا (١١) مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(١٢).
__________________
(١) نقله أبو حيان عن الحوفي. انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.
(٢) ما بين القوسين سقط من ب.
(٣) من قوله تعالى : «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» [الرحمن : ٢٠].
(٤) انظر الكشاف ٣ / ١٠١.
(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠٧.
(٦) في اللسان (جحن) : الجوهري : جيحون نهر بلخ ، وهو فيعول. وجيحان نهر بالشام. قال ابن بري : يحتمل أن يكون وزن جيحون فعلول مثل زيتون وحمدون.
(٧) في ب : والمراد.
(٨) في ب : حاجزا.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠٠ ـ ١٠١.
(١٠) في ب : منها.
(١١) في ب : وخلقنا.
(١٢) [الأنبياء : ٣٠]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٠١.