فالجواب : حاشاه من ذلك ، بل ابتدأ الكتاب ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وإنما كتب اسمه عنوانا بعد ختمه ، لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت (١) : (إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، أي : إنّ (٢) الكتاب ... فالتقديم واقع في حكاية الحال (٣). واعلم أن قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشتمل على إثبات الصانع سبحانه ، وإثبات كونه عالما قادرا (٤) حيا مريدا حكيما (٥) رحيما (٦).
فصل(٧)
وقد استنبط الشيخ الإمام العالم شرف الدين محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري (٨) من أسرار البسلمة ما أبطل به مذهب النصارى ، فقال : بلغني أن بعض النصارى انتصر لدينه ، وانتزع من البسلمة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح وصحة يقينه فقلب حروفها ونكر (٩) معروفها وفرق مألوفها وقدم فيها وأخر وفكّر وقدر فقتل كيف قدر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة : «المسيح ابن الله المحرر» ، وظن (١٠) ذلك سرا في قلب البسملة مضمرا ، وعلى جبين الكتاب العزيز مسطرا ، فنظرت إلى ما عزاه إلى البسملة واستخرجه من حروفها المستعملة والمهملة فإذا هو : «لا ما المسيح ابن الله محرر» ، فأسقط في يده (١١) ، ونكص على عقبيه ، وقامت حجته من لسانه عليه ، ثم عاد إليّ رسوله يخبر أن الذي صح له نظمه وتمت (١٢) عنده منها حكمه : «ألم المسيح ابن الله محررا» ، فقلت : ورسل الله كلهم ألموا وأنبياؤه ، فأي خصوصية لربك بالنبوة ، وأي رتبة زدته بها على النبوة ، فقال : أردت بالألم إثبات ما أنكرته من الصلب ، ونفيته عنه من ألم الطعن والضرب ، وقد شهدت به كتب الله المنزلة ، وشافهتك به حروف البسملة ، فقلت : وهل شهدت لك إلا بالنقيض ، ورحت منها بأخيب قداح المفيض (١٣) ، وحيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وجوزت منها أحكاما عليك وحكما ، فلتنصرن البسملة الأخيار منا على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار ، وحيث كان مقصودك من ذكر الألم الإفصاح عما أردته من الصلب والطعن والضرب والثلب
__________________
(١) في ب : قال. وهو تحريف.
(٢) إن : سقط من ب.
(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٤.
(٤) في ب : قادرا عالما.
(٥) في ب : حكما.
(٦) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٤.
(٧) في الأصل : قوله.
(٨) محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين شاعر حسن الديباجة مليح المعاني نسبته إلى بوصير له ديوان شعر وأشهر شعره البردة ، والهمزية. مات سنة ٦٩٦ ه بالاسكندرية. الاعلام ٦ / ١٣٩.
(٩) في ب : وأنكر.
(١٠) في النسختين : وظن أن ، والصواب ما أثبت.
(١١) في ب : يديه.
(١٢) في ب : ثبت.
(١٣) أفاض الرجل بالقداح إفاضة : ضرب بها لأنها تقع منبثة متفرقة. اللسان (فيض).