«لا (تَعْلُوا) للنهي ، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه (١) فقوله : «فعلى هذا» : إلى آخره صريح بأنّها على غير هذا يعني الوجهين المتقدمين ليس للنهي فيهما (٢) ، ثم القول بأنّها للنفي لا يظهر ، إذ يصير المعنى ـ على الإخبار منه عليهالسلام ـ بأنّهم لا يعلون عليه ، وليس هذا مقصودا ، وإنّما المقصود أن ينهاهم عن ذلك. وقرأ ابن عباس والعقيلي : «تغلوا» ـ بالغين المعجمة (٣) ، من الغلو ، وهو مجاوزة الحد.
فصل
قال ابن عباس : «لا تتكبروا علي» (٤) ، وقيل : لا تتعظموا ولا ترتفعوا عليّ أي : لا تمتنعوا من الإجابة ، فإنّ ترك الإجابة من العلوّ والتكبر ، (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : مؤمنين طائعين (٤) ، قيل : هو من الإسلام (٤) ، وقيل : من الاستسلام (٤). فإن قيل : النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولا حقا يدل على الاكتفاء بالتقليد.
فالجواب : معاذ الله أن يكون هناك تقليد ؛ وذلك لأنّ رسول سليمان إلى بلقيس الهدهد ، ورسالة الهدهد معجزة ، والمعجزة تدل على وجود الصانع وصفاته ، وتدل على صدق المدّعي للرسالة ، فلمّا كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة ، لا جرم لم يذكر في الكتاب دليل آخر (٥).
قوله : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أشيروا عليّ فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم ، والفتوى هي الجواب في الحادثة ، استفتت ، على طريق الاستفادة من الفتي في السن ، أي : أجيبوني في الأمر الفتي ، وقصدت (٦) بذلك استطلاع آرائهم وتطييب قلوبهم (٧).
(ما كُنْتُ قاطِعَةً) قاضية وفاصلة ، (أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) تحضرون. «قالوا» مجيبين لها ، (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في القتال ، (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، في الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وأرادوا بالبأس الشديد : الشجاعة (٨) ، والبأس : النجدة والبلاء في الحرب ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك (٩) ، ثم قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أيتها الملكة في القتال وتركه.
قوله : (ما ذا تَأْمُرِينَ) ماذا هو المفعول الثاني ل «تأمرين» ، والأول محذوف تقديره :
__________________
(١) البحر المحيط ٧ / ٧٢.
(٢) في ب : فيها.
(٣) المختصر (١٠٩) ، المحتسب ٢ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٧ / ٧٢.
(٤) انظر البغوي ٦ / ٢٧٧.
(٥) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٥.
(٦) في ب : وتصدقت. وهو تحريف.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٩٥.
(٨) انظر البغوي ٦ / ٢٧٧.
(٩) المرجع السابق.