ولمّا ذكر موسى ـ عليهالسلام (١) ـ هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى ، فقال لمن حوله من أشراف قومه ـ قال ابن عباس : كانوا خمسمائة (٢) ـ : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية (٣). وقيل : استبعد جواب موسى وقال : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم ، فزادهم موسى بيانا فقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا ، وذلك لأنه (٤) يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين (٥) واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق ، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [كونهم واجبين لذواتهم ، لأن المشاهدة دلّت على أنهم وجدوا](٦) بعد العدم ، وعدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته ، واستحال وجوده إلا بالمؤثر ، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى ـ عليهالسلام (٧) ـ إليه ، فقال فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة ، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ، فقال موسى ـ عليهالسلام (٨) ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد ب «المشرق» طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد ب «المغرب» : غروب الشمس وزوالها ، والأمر ظاهر ؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فأجابه نمروذ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فقال : «إن (اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) وهو (٩) الذي ذكره موسى ـ عليهالسلام (١٠) ـ بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).
وأما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فكأنه ـ عليهالسلام ـ قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ، ولا يمكن (١١) تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، ولا بأجزاء حقيقته ، فلم يبق إلا أن أعرّف حقيقته بآثار حقيقته ، وقد عرّفت حقيقته بآثار حقيقته ، فمن كان عاقلا يقطع بأنه لا جواب عن
__________________
(١) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٢) انظر البغوي ٦ / ٢١١.
(٣) في ب : بالفاعل.
(٤) في ب : أنه.
(٥) في ب : والأرض.
(٦) ما بين القوسين سقط من ب.
(٧) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٨) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٩) في ب : وهذا.
(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(١١) في ب : ولا يكون.