إسناد عمل السيئة إليهم مكررا فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين ، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة بعشر (١) أمثالها (٢).
فإن قيل : قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة ، (وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة) (٣) فما السبب؟
والجواب (٤) : أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي (٥) عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة ، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى (٦). فإن قيل : كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ فالجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبدا لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه(٧).
قوله (٨) : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) قال أبو علي (٩) : فرض عليك أحكامه وفرائضه «لرادّك» بعد الموت «إلى معاد» وتنكير المعاد لتعظيمه ، كأنه قال : معاد وأي معاد ، أي ليس لغيرك من البشر مثله ، وقيل : المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح ، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معادا لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عليها ، وقهره لأهلها وإظهار (١٠) عز الإسلام وإذلال (١١) حزب الكفرة ، والسورة مكية ، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها ، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا ، وقال مقاتل : إنّه صلىاللهعليهوسلم خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة (١٢) بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعم» فقال جبريل إنّ الله (١٣) يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)(١٤). يعني مكة ظاهرا عليهم قال المحققون : وهذا حد ما يدل على نبوته ، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزا (١٥).
__________________
(١) في ب : عشر.
(٢) انظر الكشاف ٣ / ١٨١. بتصرف.
(٣) ما بين القوسين سقط من ب.
(٤) في ب : فالجواب.
(٥) في ب : المنهي.
(٦) انظر الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.
(٧) المرجع السابق.
(٨) في ب : قوله تعالى.
(٩) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.
(١٠) في ب : فإظهار.
(١١) في ب : إذلال.
(١٢) الجحفة : موضع بين مكة والمدينة. المعجم الوسيط (جحف).
(١٣) في ب : الله تعالى.
(١٤) انظر الدر المنثور ٥ / ١٣٩.
(١٥) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥ / ٢٢.