يكون من علم بمعنى عرف (١) ، فلما جيء بهمزة النقل أكسبتها مفعولا آخر ، فحذف.
ثم هذا المفعول) يحتمل أن يكون هو الأول ، أي ليعلمن الله النّاس الصّادقين وليعلمهم الكاذبين أي بشهرة (٢) يعرف لها هؤلاء من هؤلاء ، وأن يكون الثاني ، أي ليعلمن هؤلاء منازلهم ، وهؤلاء منازلهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون من العلامة ، وهي السّيما ، فلا يتعدى إلا لواحد أي ليجعلن لهم علامة يعرفون بها (٣).
وقرأ الزّهريّ (٤) الأولى كالمشهورة والثانية كالشاذة (٥).
فصل
المعنى : فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم : آمنّا ، وليعلمن الكاذبين.
قال المفسرون : ظاهر الآية يدل على تجدد العلم ، والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوحد معلومه.
وقال مقاتل : فليرينّ الله. وقيل : ليميز الله ، كقوله : «ليميز (الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
وقال ابن الخطيب : الآية محمولة على ظاهرها ، وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فقبل التكليف كان الله تعالى يعلم أنّ زيدا مثلا سيطيع وعمرا سيعصي ثم وقت التكليف بالإتيان يعلم أنه أطاع ، والآخر عصى ، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم.
ومثال ذلك في الحسّيّات أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت في موضع ، وقوبل بوجهها جهة (ولم تحرك) ثم عبر عليها زيد لابسا ثوبا أبيض يظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها «عمرو» في ثوب أصفر يظهر فيها كذلك. فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديدا تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو أنها في صقالتها اختلفت ، أو يخطر بباله أنها عن مكانها انتقلت؟ لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير إنما هو الخارجات.
فعلم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغيير ، وعلم الله غير ممكن التغيير ، فقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) من هذا المثال يعني يعلم من علم الله أنه يأتي بالطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم. وليعلمن الكاذبين ، يعني من قال : أنا مؤمن ،
__________________
(١) الدر المصون ٤ / ٢٩٣.
(٢) في «ب» بشهوة.
(٣) باللفظ من الدر المصون السابق وبالمعنى من البحر المحيط ٧ / ١٤٠.
(٤) الزهري أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدني أحد الأعلام ، وعالم الحجاز والشام روى عن ابن عمر ، وسهل بن سعد وغيرهم ، وعنه أبان بن صالح وإبراهيم وغيرهما مات سنة ١٢٤ ه. انظر خلاصة الكمال ٣٥٩.
(٥) المحتسب والمختصر السابقين.