فكأنه قال : هذا التكليف ليس مختصا بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، فذكر من الذين كلفوا (١) قبله نوح عليه (الصلاة و) السلام وقومه ، وإبراهيم عليه (الصلاة و) (٢) السلام وغيرهما.
قوله : (أَلْفَ سَنَةٍ) منصوب على الظرف (إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه (٣) جواب عن هذه الآية ، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غاير بين تمييزي العدد فقال في الأول «سنة» ، وفي «الثاني» عاما ، لئلا يثقل اللفظ (٤) ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لما استراح (٥) منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة (٦).
فصل
قال بعضهم : إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي (٧) ، فإذا قال القائل : لفلان عليّ عشرة إلا ثلاثة فكأنه قال : عليّ سبعة ، إذا علم هذا فقوله : (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كقوله : تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان (٨) ، إحداهما : أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب ، فإن من قال : عاش فلان ألف سنة (يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة) (٩) تقريبا لا تخفيفا ، فإذا قال إلا شهرا أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية : هي أن ذكر لبث نوح عليه (الصلاة و) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيرا فالنبي عليه (الصلاة و) السلام أولى بالصبر مع قصر مدّة (دعائه).
قوله : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) فغرقوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) قال ابن عباس : مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ، فقوله : (وَهُمْ ظالِمُونَ) يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.
قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) يعني من الغرق ، (وَجَعَلْناها) يعني السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي عبرة ، وفي كونها آية وجوه :
__________________
(١) في «ب» فذكر الذين كلفوا قبل نوح.
(٢) زيادة من ب.
(٣) أثبتت في كلتا النسختين وفي نسخ كثيرة بهذا اللفظ «عنه» ، وقد أوردها السمين في الدر المصون ٤ / ٢٩٧ بلفظ «منه» وهو الصواب.
(٤) انظر : البحر ٧ / ١٤٥ والكشاف ٣ / ٢٠٠ قال : «فإن قلت : لم جاء المميز أولا بالسنة ، وثانيا بالعام؟
قلت : لأن تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة».
(٥) في «ب» أراح وهو تحريف.
(٦) تفسير الدر المصون للسمين ٤ / ٢٩٨.
(٧) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤١.
(٨) نقله الفخر الرازي عن الزمخشري ولم أجده في الكشاف بلفظه المنقول. انظر : الكشاف ٣ / ٢٠٠.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من «ب».