تعلم الشرع اقتصر على قوله : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» (١) واعلم أن قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أجابه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢).
والمراد ب «الحكم» : إدراك الحق والعلم ، لأن النبوة كانت حاصلة له ، وتحصيل الحاصل محال ، وهذا قول مقاتل (٣). وقال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه.
وقال الكلبي : النبوّة (٤)(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة.
قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ). أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا ، وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي. قال ابن عباس : أعطاه الله بقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٥) [الصافات : ١٠٨] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة ، لأن القول يكون به (٦). وقيل : المراد منه : أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى وذلك هو محمد ـ عليهالسلام (٧) ـ فالمراد من قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) بعثة محمد (٨) ـ صلىاللهعليهوسلم (٩) ـ.
قوله : (وَاجْعَلْنِي (مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)) (١٠) «من ورثة» إما أن يكون مفعولا ثانيا ، أي : مستقرا أو كائنا من ورثة. وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني ، أي : وارثا من ورثة (١١). واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث لأنه (١٢) الذي يغتنم في الدنيا ، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا (١٣).
قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). لما فرغ من طلب السعادات (١٤) الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقا به ، وهو أبوه ، وفيه وجهان :
الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام ، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط ، فقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) كأنه دعاء له بالإسلام.
__________________
(١) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.
(٢) [البقرة : ١٣٠] ، [النحل : ١٢٢] ، [العنكبوت : ٢٧]. وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.
(٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٧.
(٤) في ب : والنبوة.
(٥) [الصافات : ١٠٨] ، وتكررت في نفس السورة الآية (٧٨ ، ١٢٩) وانظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩.
(٦) انظر القرطبي ١٣ / ١١٣.
(٧) في ب : صلىاللهعليهوسلم.
(٨) في ب : محمدا. وهو تحريف.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩.
(١٠) ما بين القوسين مكرر في ب.
(١١) ذكر هذا الوجه أبو البقاء. انظر التبيان ٢ / ٩٩٧.
(١٢) في ب : لأنه هو.
(١٣) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٤٩ ـ ١٥٠.
(١٤) في النسختين : السؤالات. والتصويب من الفخر الرازي.