فصل
«أحصيناه» حفظناه وثبّتناه (فِي إِمامٍ مُبِينٍ). فقوله «أحصيناه» أبلغ من كتبناه ، لأن من كتب شيئا مفرقا يحتاج إلى جمع عدده (١) ، فقال يحصي (٢) فيه. وإمام جاء جمعا في قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي بأئمتهم (٣) وحينئذ ف «إمام» إذا كان فردا فهو ككتاب وحجاب ، وإذا كان جمعا فهو كجبال. والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهرا (للملائكة (٤) ما) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقا في الجنة وفريقا في السعير. وسمي الكتاب إماما ، لأن الملائكة يأتمون به ، ويتبعونه ، وهو اللوح المحفوظ. وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمرا مكتوبا عليهم لا يبدّل ، فإن القلم جفّ بما هو كائن ، فلما قال (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) بين أن قبل ذلك كتابة أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه (٥). وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله : (وَنَكْتُبُ) ؛ لأن من يكتب (٦) شيئا في أوراق ويرميها قد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقال : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى : (عِلْمُها)(٧)(عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]. وقيل : إنّ ذلك تعميم بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئا من الأفعال والأقوال لا يعزب عن (علم) (٨) الله ، ولا يفوته وهو قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ـ ٥٣] يعني ليس ما في الزبر منحصرا فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب (٩).
قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)
قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) تقدم الكلام على نظيره في
__________________
(١) قاله أبو عبيدة في المجاز ٢ / ١٥٩.
(٢) في «ب» نحصي.
(٣) في «ب» بأمتهم.
(٤) سقط من «ب».
(٥) انظر في هذا تفسير العلامة الرازي ٢٦ / ٤٩ و ٥٠.
(٦) في «ب» كتب بصيغة الماضي.
(٧) لفظة «علمها» سقطت من «ب».
(٨) سقط من «ب».
(٩) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ٥٠.