حيث قيل لهم : أنفقوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا)؟ وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) قالوا (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) لكان كافيا فما الفائدة في قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)؟ فالجواب : أن الكفار كانوا يقولون بأنّ الإطعام من الصّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطعمة الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين معتقدين بأن أفعالنا منّا (١) ولو لا إطعامنا منّا لما اندفعت (٢) حاجة الضيف وأنتم تقولون : إنّ إلهكم يرزق من يشاء فلم تقولون (٣) لنا : أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين ، لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) إشارة إلى الرد. وأما قوله : اتّقوا ما بين أيديكم» فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض (الله) (٤) عن ذكر إعراضهم لحصول(٥) العلم به.
فصل
قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما (٦) زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حروثهم (٧) وأنعامهم «قالوا أنطعم» أنرزق (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا ، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه.
فإن قيل : ما الفائدة من (٨) تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق من لو يشاء الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) فكان جوابهم أن يقولوا : أننفق ؛ فلم قالوا : أنطعم؟.
فالجواب : أن في هذا بيان غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقلّ منه وهو الإطعام. وهذا كقول القائل لغيره :«أعط زيدا دينارا» فيقول: لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه دينارا
__________________
(١) في الرازي : «ثناء» لا منّا.
(٢) كذا في «ب» وفي الرازي اندفع.
(٣) كذا في «ب» والعرف النحوي وفي «أ» : فلم تقولوا بحذف النون لحن لغوي.
(٤) زيادة من الرازي.
(٥) انظر : الرازي ٢٦ / ٨٤.
(٦) في «ب» فيما.
(٧) في «ب» حرثهم بالإفراد. وهذا القول ينسب إلى مقاتل. انظر : زاد المسير ٧ / ٢٤ والجامع للقرطبي ١٥ / ٣٦ و ٣٧ والبحر المحيط ٧ / ٣٤٠.
(٨) في «ب» في. وهو الموافق للرازي ٢٦ / ٨٤.