ولكن المبالغة في هذا الوجه أتمّ. فكذلك ههنا.
فإن قيل : قولهم : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذّمّ؟.
فالجواب : لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسد فبيّن الله ذلك بقوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فإنه يدل على قدرته ويصحّح (١) أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ، ولا يجوز أن يقول من في يده مال : في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه (٢).
قوله : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) مفعول «أنطعم» و «أطعمه» جواب «لو» وجاء على أحد الجائزين (و) (٣) هو تجرده من اللام. والأفصح (٤) أن يكون بلام (٥) ، نحو : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً)(٦) [الواقعة : ٦٥] قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول الكفار للمؤمنين : ما أنتم إلا في خطأ بيّن (٧) في اتّباعكم محمدا وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد.
فصل
اعلم أنّ «إن» وردت للنفي بمعنى «ما» وكان الأصل في «إن» أن تكون للشرط والأصل في «ما» أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا (٨). واستعمل «ما» في الشرط ، واستعمل «إن» في النفي. أما وجه اشتراكهما فهو أن كل واحدة منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه «ما» و «إن» لا يكون ثابتا أما في «ما» فظاهر وأما في «إن» فلأنك إذا قلت : «إن جاء زيد أكرمه» ينبغي أن لا يكون منه في الحال (مجيء) (٩)
__________________
(١) في «ب» صحح وما في الرازي موافق لما هنا أعلى.
(٢) انظر : تفسير الإمام فخر الدّين الرازي ٢٦ / ٨٤ و ٨٥.
(٣) سقط من ب.
(٤) نقول : إن حكمه كقول الله ـ عزوجل ـ «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» فكانت القاعدة تقتضي القول استحاذ كاستجاب واستعاذ لكنا نقول : إنه شاذ قياسا فصيح استعمالا فكان على المؤلف أن يذكر بدل الأفصح الأكثر.
(٥) حيث إنّ الجواب ماض مثبت غير منفي وإذا كان كذلك كانت اللام هي الكثيرة وبدونها يكون قليلا.
(٦) وجاء من حيث القلة قوله : «لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً» ٦٩ من نفس السورة.
(٧) في ب مبين.
(٨) أي أخذ كل منهما من الآخر شيئا فأصبحا متعارضين. وفي ب «فتعارضا». تحريف.
(٩) سقط من ب وفي الرازي ٢٦ / ٨٥ : «أن لا يكون له في الحال مجيء» ، وانظر : تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٦ / ٨٥.