فصل
في الترتيب (١) وجهان :
الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) يريدون ينكرون كفرهم كما قال عنهم : (ما أَشْرَكْنا) (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم.
الثاني : لما أن قال الله تعالى لهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان. وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها : أن الله تعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأنه في قدرة الله يسير (و) (٢) أما الإسكان فلا خفاء فيه وأما الإنطلاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات. والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي (٣) الرّؤوس لا يجدون عذرا فيعتذرون ولا مجال (٤) توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمور بحيث لا يسمع معه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح (٥) الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه ، فيقال لأركانه انطقي قال : فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل (٦) وقال عليه (الصلاة و) السلام : «أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه» (٧).
فإن قيل : ما الحكمة في إسناده (٨) الختم إلى نفسه وقال «نختم» وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟
فالجواب : أنه لو قال : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبرا منه وقهرا والإقرار والإجبار غير مقبول فقال : تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
فإن قيل : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟
__________________
(١) التفسير الكبير للرازي ٢٦ / ١٠١.
(٢) زيادة الواو من النسختين لا معنى لها.
(٣) تصحيح من الرازي ومن السياق اللغوي ففي النسختين ناكسو.
(٤) في ب محال بالحاء وما في أيوافق الرازي.
(٥) السابق ٢٦ / ١٠١.
(٦) أخرجه البغوي في تفسيره عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٧) أورده ابن كثير في تفسيره عن الرازي انظر : تفسيره ٣ / ٥٧٧.
(٨) انظر في كل هذا تفسير الرازي ٢٦ / ١٠١ و ١٠٢.