عطفت «من» على «هم» (١) وقرأ الأعمش بتخفيفها (٢) وهو استفهام ثان (٣) ، فالهمزة للاستفهام أيضا و «من» مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد ، فهما جملتان مستقلتان (٤) ، وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى «بمن» (٥) قوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي جيّد حر لاصق يعلق باليد. واللازب واللازم بمعنى (٦). وقد قرىء : لازم (٧) ، لأنه يلزم اليد ، وقيل : اللازب اللّزج (٨). وقال مجاهد والضحاك : منتن (٩) ، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم (١٠).
فصل
وجه النظم (١١) : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمعاد والنّبوّة وإثبات القضاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وربّ المشارق ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبأن يكون قادرا على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى. وأيضا فقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) يعني أصلهم وهو آدم ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ روي أنّ القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم : إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما
__________________
(١) من قوله تعالى : «أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً».
(٢) أي أمن ولم ترو هذه القراءة عنه إلا في الشواذ فلم أجدها في الكتب المتواترة ونسبها إليه أبو حيان والسمين ولم ينسبها الزمخشري. انظر : البحر ٧ / ٣٥٤ والدر ٤ / ٥٤١ والكشاف ٣ / ٣٣٧.
(٣) يقصد بالأول : أهم أشدّ خلقا وبالثاني : أم من خلقنا.
(٤) قاله الزمخشري في المرجع السابق والسمين في الدر ٤ / ٥٤١.
(٥) المرجعين السابقين.
(٦) قاله أبو إسحاق الزجاج في المعاني ٤ / ٢٩٩.
(٧) نقلها صاحب الكشاف قراءة لا لغة انظر : الكشاف ٣ / ٣٣٧ وانظرها كقراءة في الدر المصون ٤ / ٥٤١.
(٨) نقله الرازي في تفسيره ٢٦ / ١٢٥.
(٩) السابق وانظر البغوي ٦ / ١٩.
(١٠) لتقارب المخارج وانظر مجاز القرآن ٢ / ١٦٧ وغريب القرآن ٣٦٩ والقرطبي ١٥ / ٦٨ و ٦٩. وحكى الفراء عن قيس أنهم يقولون لازب ولاتب. واللاتب الثابت. المعاني ٢ / ٣٨٤ وانظر : اللسان : «ل ز ب» ٤٠٢٦ و «ل ز م» ٤٠٢٧ ولزب أفصح من لزم.
(١١) قال بهذا الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٦ / ١٢٤.