لأن الذي جرى ذكره من أول الآية إلى هذا الموضع فهو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال (١). قال ابن الخطيب : و (اعلم (٢) أن) هذه (ال) سّؤالات قوية فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية.
قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) لما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء (فقالوا : ابنوا (له) بنيانا) ، قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملأوه نارا وطرحوه فيها وذلك هو قوله : (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وهي النار العظيمة (٣). قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم (٤) ، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية (٥) (والمعنى (٦) في جحيمه أي في جحيم ذلك البنيان. ثم قال تعالى : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)) والمعنى أن في وقت المحاجة (٧) حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي شواء وهو أن يحرقوه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) المقهورين من حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم ، ولمّا انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦] والمعنى أهجر دار الكفر أي أذهب إلى موضع دين ربي ، وقوله: «سيهدين» أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو الشام ، وهذا يدل على أن الهداية لا تحصل إلّا من الله تعالى. ولا يمكن حمله على وضع الأدلّة وإزاحة الأعذار لأن ذلك كان حاصلا في الزمان والماضي ، قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي هب لي ولدا صالحا ، لأن لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣].
قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١١١)
(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) في كبره ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سنّ يوسف
__________________
(١) الرازي المرجع السابق.
(٢) ما بين الأقواس زيادة من تفسير الرازي المشار إليه أعلى.
(٣) انظر : القرطبي ١٥ / ٩٧.
(٤) قاله في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٣١٠.
(٥) في ب : الكفاية.
(٦) ما بين القوسين كله سقط من ب بسبب انتقال النظر.
(٧) في ب : الحاجة.