فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وذلك يدل على أنّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعدم حتى يصحّ هذا الحصر (١).
قال ابن الخطيب : وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال : البشر أقرب درجة من الملك فضلا عن أن يقال : هم أفضل منه أم لا؟! (٢).
قال قتادة : قوله (٣) : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) هم الملائكة صفّوا أقدامهم ، وقال الكلبي (٤) : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخبر جبريل للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار ، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال : (وَإِنْ كانُوا) أي وقد كانوا : يعني أهل مكة «ليقولون» لام التأكيد (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي كتابا من كتب الأولين (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا ، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيّد الأذكار وهو القرآن ، (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٨٢)
قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وهي قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] لما هدد الكفار بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) والنّصرة والغلبة قد تكون (٥) بالحجّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل بعض الأنبياء وهزم كثير من المؤمنين (٦).
قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) تفسير للكلمة فيجوز أن لا يكون لها محلّ من
__________________
(١ و ٢) الرازي ٢٦ / ١٧١.
(٣ و ٤) زاد المسير ٧ / ٩٣ والبغوي ٦ / ٣٩.
(٥) في الرازي : بقوة الحجة.
(٦) قاله الإمام الفخر في : التفسير الكبير ٢٦ / ١٧٢.