صغيرة لداود عليه (الصلاة و) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول : روي أنّ جماعة من الأعداء طمعوا أن يقتلوا داود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوّروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعهم (١) منه فخافوا ووضعوا (٢) كذبا وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة. وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه (الصلاة و) السلام إلا ألفاظ أربعة :
أحدها : قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ).
وثانيها : قوله : (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً).
وثالثها : (وَأَنابَ).
ورابعها : قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ). ثم نقول : هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجوه :
الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليهالسلام دعاه (٣) الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصّفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة الله تعالى فكانت هي (٤) الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ثم إنّه استغفر ربه مما همّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمّ وأناب فغفر له ذلك القدر من الهمّ والعزم.
الثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال : لمّا لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك فلبئس (٥) ما عملت حيث ظننت فيهم هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد من قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ثم إنه استغفر ربه وأناب منه فغفر الله له ذلك.
الثالث : دخولهم عليه كان فتنة لداود ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ إلا أنه عليه (الصلاة و) السلام استغفر لذلك العازم (٦) على قتله كقوله في حق محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] فداود (عليهالسلام) (٧) استغفر لهم ، وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب المغفرة لذلك الرجل الداخل القاصد القتل (٨) ، وقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي فغفرنا ذلك الذنب لأجل احترام داود وتعظيمه كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] إن معناه : إن الله يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمّتك.
__________________
(١) كذا ؛ وفي الرازي يمنعونه منهم.
(٢) في ب : ووصفوا.
(٣) في ب : داعاه.
(٤) أي الواقعة وفي ب بدلا من هي «من».
(٥) كذا في النسختين وفي الرازي : فبئسما علمت بهم.
(٦) كذا في «أ» والرازي وفي ب العزم.
(٧) ما بين القوسين سقط من ب.
(٨) كذا في ب و «أ». وفي الرازي للقتل.