وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في القصة لأن من البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم منهم ، ثم يذكر عقيبه أن الله فوّض خلافة الأرض إليه. ثم في تفسير كونه خليفة وجهان :
الأول : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة ، وذلك على الله محال.
الثاني : إنا جعلناك ممكنا في الناس نافذ (١) الحكم فيهم. فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خليفة الله في الأرض (٢) وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته ، وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة (مفيدة) (٣) للزوم نفاذ ذلك الحكم في تلك الحقيقة.
قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) أي بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقيقة (٤) الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات ، وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب (٥).
قوله : «فيضلك» فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب في جواب النهي (٦).
الثاني : أنه عطف على (لا تَتَّبِعِ) فهو مجزوم (٧) ، وإنما فتحت اللام لالتقاء الساكنين. وهو نهي عن كل واحدة على حدته (٨) ، والأول (٩) فيه النهي عن الجمع بينهما (١٠) وقد يترجح الثاني (١١) لهذا المعنى ، وقد تقدم تقرير ذلك في البقرة في قوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ)(١٢) [البقرة : ٤٢].
__________________
(١) في ب تأخذ.
(٢) في الرازي خلفاء الله في أرضه وانظر الرازي ١٦ / ١٩٨ و ١٩٩.
(٣) سقطت من ب.
(٤) في الرازي : الحقه.
(٥) انظر : الفخر الرازي ٢٦ / ١٩٩ و ٢٠٠.
(٦) فتكون الفاء للسببية و «أن» مضمرة وجوبا.
(٧) وقال بهذين الوجهين أبو البقاء العكبري في التبيان ١٠٩٩ والسمين في الدر ٤ / ٦٠٤.
(٨) عن كل واحد على عدم الإتيان به وعنهما مطلقا.
(٩) في ب والأولى تحريف.
(١٠) كالعبارة المشهورة لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
(١١) وهو الجزم.
(١٢) ولم يزد هناك على ما قاله سوى أن الآية هناك بواو المعية وهنا بفاء السببية.