فصل
قال ابن الخطيب : دلت هذه الآيات على أن الشياطين لها قوة عظيمة قدروا بها على بناء تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا على الغوص في البحار واستخراج اللآلىء وقيدهم سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ. ولقائل أن يقول : هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ؛ فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان شديد الحاسّة ؛ إذ لو جاز أن لا نراهم (١) مع كثافة أجسادهم فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في السّفسطة وإن كانت أجسادهم لطيفة فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة ، ويلزم أيضا أن تتفرق (٢) أجسادهم وأن تتمزّق (٣) بالرّياح العاصفة القوية وأن يموتوا (في الحال) (٤) وذلك يمنع وصفهم بالقوة وأيضا فالجنّ والشياطين وإن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة فلم لا يقتلون العلماء والزّهّاد في زماننا هذا ولم لا يخرّبون ديار الناس مع أن المسلمين يبالغون في إظهار لعنتهم وعداوتهم وحيث لم يحس بشيء من ذلك علمنا أن القول بإثبات الجنّ ضعيف.
قال ابن الخطيب : واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسادهم كثيفة مع أنا لا نراهم وأيضا لا يبعد أن تكون أجسادهم لطيفة بمعنى عدم الكون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق. وأما الجبّائيّ فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ ثم إنه لما توفي سليمان ـ عليه (الصلاة و) السلام ـ أمات الله أولئك الجنّ والشياطين وخلق أنواعا أخر من الجن والشياطين تكون أجسادهم في غاية الرّقّة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس ـ والله أعلم ـ.
قوله : (هذا عَطاؤُنا) أي قلنا له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ، قال ابن عباس : أعط من شئت وامنع من شئت (٥).
قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق (٦) «بعطاؤنا» أي أعطيناك بغير حساب ولا تقدير. وهو دلالة على كثرة الإعطاء.
__________________
(١) كذا في الرازي أيضا. وفي ب يراهم بالياء.
(٢ و ٣) كذا في الرازي أيضا وفي ب : يتفرق ويتمرق بالياء.
(٤) سقط من ب فقط وانظر : تفسير الإمام الرازي ٢٦ / ٢١٠ و ٢١١.
(٥) المرجع السابق.
(٦) التبيان ١١٠١ والدر المصون ٤ / ٦١١ والكشاف ٣ / ٣٧٦.