فالجواب : أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الرّوحانيّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة (١) ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف (٢) أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود (٣) وجه القصار (٤) ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح. وقد نرى إنسانا (واحدا) (٥) يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره ، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قال كل (واحد) (٦) منهما : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : اكتب فكذا نزلت فازداد عمر إيمانا على إيمان ، وازداد ذلك الإنسان (كفرا (٧) على كفر) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله ـ عزوجل ـ يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيّة ويوجب القسوة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشّيطانيّة.
قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)
قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بكونه : «حديثا» في هذه الآية وفي قوله : «قل (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)(٨) وفي قوله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) [الواقعة : ٨١] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه (لا) (٩) يصح أن يقال :
__________________
(١) في ب : كدرة.
(٢) في ب : يختلف.
(٣) كذا في أوفي ب والرازي : يسود عائدا على نور.
(٤) قال سيبويه ـ نقله عنه ابن منظور ـ : قصر الثّوب قصارة وقصره بمعنى حوره ودقه اللسان : «ق ص ر» ٣٦٤٩.
(٥) سقط من ب.
(٦) سقط من ب.
(٧) ما بين القوسين سقط من أوانظر : الرازي ٢٦ / ٢٦٦.
(٨) الآية ٣٤ من سورة الطور ؛ وتصحيحها : «فليأتوا بحديث مثله».
(٩) زيادة خطأ من أ.