الأذهان لا غير ، كالنبوّة والرسالة والدين والتقى والإيمان ونحو ذلك ؛ فإنّ نسبة (١) السرّ إلى (٢) هذه الأمور ليست على نحو نسبته إلى الأمور المتحقّقة الوجود في الأعيان ، فإذا قيل : ما سرّ النبوّة؟ وما سرّ الشريعة؟ وما سرّ الدين؟ فالمراد بالسرّ هنا عند المحقّقين هو أصل الشيء المسئوول عنه ، أو ما خفي من أمره الذي من عرفه علّة ذلك الشيء وخاصّيّته ، وأصل منشئه وسبب حكمه وظهوره ، ولوازمه البيّنة والخفيّة.
وللدين سرّ يعرفه من يعرف حقيقة الجزاء وأحكامه ، وللجزاء سرّ أيضا تتوقّف معرفته على معرفة الأفعال التي يترتّب عليها الجزاء ، وللأفعال أيضا ـ من حيث ما يجازى عليها من نسبت إليه وظهرت منه ـ سرّ تتوقّف معرفته على معرفة التكليف ، فإنّه ما لم يكن تكليف لم يتقرّر أمر ونهي يوجبان تركا أو فعلا ، ومتى لم يتقرّر الأفعال المشروعة المتفرّعة عن الأوامر والنواهي ، لا يتعقّل الجزاء المجعول في مقابلة الأفعال التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي ، فالتكليف إذا أصل هذه الأمور المذكورة ، وله أيضا سرّ وحكمة ، سنشير إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ ؛ فإنّه قد ذكرنا من سرّ الأفعال والمجازاة وما يختصّ بهما ما قدّر الحقّ ذكره ، ونبّهنا على كثير من الأفعال من الأسرار الإلهيّة ، المتعلّقة بهذا الباب ، وما إذا تأمّله اللبيب وفهمه (٣) ثم استحضره ، لم يعزب عنه شيء من كلّيّات أسرار الدين وأحكامه ولوازمه الأصليّة.
وقد شاء الله أن أختم الكلام على هذه اللفظة من هذه الآية بذكر ما تبقى من أمّهات أسرار الدين ، وأنبّه على أصل التكليف وسرّه وحكمته المعرّفة بمرتبته وثمرته وجلّ جدواه ؛ وفاء بما التزمته في أوّل الكتاب من التنبيه على أصول ما يقع الكلام (٤) عليه في هذا التفسير ، ممّا تتضمّنه الفاتحة ، فأقول :
أصل التكليف وحكمته
كلّ نسبة تعقل بين أمرين ، فإنّ تحقّقها وثبوتها يتوقّف على ذينك الأمرين لا محالة ،
__________________
(١) ه : نسبته.
(٢) في بعض النسخ : على.
(٣) ق : فهم.
(٤) ق : في الكلام.