الأرض في يومين (هو (١) رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتم له أندادا من الخشب والحجر؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين) ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك ، فالأول قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول ، للفصل بينهما بأجنبي ، وهو قوله : (وَتَجْعَلُونَ) فإنه معطوف على قوله : «لتكفرون» (٢) كما تقدم. والمراد بالرواسي الجبال.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : «من فوقها» ولم يقتصر على قوله (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) كما اقتصر على قوله (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [المرسلات : ٢٧] وقوله (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) [الأنبياء : ٣١] وقوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) [الرعد : ٣].
فالجواب : أنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التّحتانيّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال : خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنّ الأرض والجبال أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ وما ذاك الحافظ المدبّر إلا الله سبحانه وتعالى (٣).
النوع الثاني : قوله (وَبارَكَ فِيها) أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد شقّ الأنهار ، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار ، وخلق أصناف الحيوانات ، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.
النوع الثالث : قوله (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قيل : المعنى وقدر فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم وقال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان. وقال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر. وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله عزوجل قدر لكل أرض حظّها من المطر (٤). وقيل (٥) المراد من إضافة القوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها ؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة ، وإلى محله أخرى ، فقوله (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدنا لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال.
__________________
(١) ما بين القوسين زيادة للمقام من الرازي المصدر السابق.
(٢) بالمعنى من التبيان للعكبري ١٠٢٣ وباللفظ من الدر المصون ٤ / ٧١٩.
(٣) الرازي ٢٧ / ١٠٢.
(٤) السابق وانظر البغوي والخازن ٦ / ١٠٥ والجامع للإمام القرطبي ١٥ / ٣٤٢ ، ٣٤٣.
(٥) هذا هو رأي الإمام الرازي في التفسير الكبير المرجع السابق.