فصل
قال ابن الخطيب : والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسّ الخمس وهي السمع والبصر ، والشّمّ والذّوق واللمس ، وآلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين ، وهما : الذوق والشم ، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه ؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسّة لجرم (الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم) المشموم فكانا داخلين في جنس (١) اللّمس. وإذا عرف هذا فنقول : نقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وهذا من باب الكنايات ، كما قال : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] وأراد النكاح وقال : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] والمراد قضاء الحاجة ، وقال عليه الصلاة والسلام : «أوّل ما يتكلّم من الآدميّ فخذه وكفّه» (٢) وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيدا شديدا في إتيان الزنا ؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ. وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس (٣) من عملهم.
قوله : (وَقالُوا) يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار (لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا من جواب الجلود ، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدنيا ثم (على) (٤) خلقكم وإنطاقكم (٥) في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء (٦)؟!
قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة.
وقال مجاهد تتقون ، وقال قتادة : تظنون (٧). قوله (أَنْ يَشْهَدَ) يجوز فيه أوجه :
أحدها : من أن يشهد (٨).
الثاني : خيفة أن يشهد.
الثالث : لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له (٩).
__________________
(١) في ب حيز وانظر الرازي بالمعنى ٢٧ / ١١٦ وما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.
(٢) انظر الرازي ٢٧ / ١١٧.
(٣) في البغوي : الألسن وكذلك الخازن وانظر البغوي والخازن ٦ / ١٠٩.
(٤) سقط من ب.
(٥) في ب وأنطقكم بالفعلية.
(٦) هذا قول الرازي في تفسيره المرجع السابق.
(٧) البغوي السابق والقرطبي ١٥ / ٣٥٢.
(٨) قاله العكبري في التبيان ١١٢٥ قال : لأن «تستتر» لا يتعدى بنفسه.
(٩) البحر المحيط ٧ / ٤٩٣ ، البغوي ٤ / ٧٢٩.