فصل
قال المفسرون : المراد بالحسنة الصّبر ، وبالسيئة الغضب. وقيل : الحلم والجهل. وقيل : العفو والإساءة (١). قال ابن الخطيب : لما حكى الله تعالى عنهم قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وإصرارهم الشديد على دينهم ، وعدم التأثّر بدلائل محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمدا صلىاللهعليهوسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله : «إنّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا فلهم الثواب العظيم» ، ثم ترقّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى ، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرجات ، ثم كأن سائلا (سأل (٢) ف) ـ قال : إن الدعوة إلى الله ، وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أنّ الصبر على سفاهة الكفّار شديدة ، فذكر الله تعالى ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ). والمراد بالحسنة دعوة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم ؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) فكأنه قال : يا محمد فعلك حسنة ، وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة (وَلَا)(٣)(السَّيِّئَةُ) أنت (٤) إذا أتيت بهذه الحسنة استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضّدّ من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة. ثم قال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطّرق (٥). قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أمر بالصبر عند الغضب (٦) ، وبالحلم عند الجهل ، وبالعفو عند الإساءة. والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة ، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغضاء إلى المودّة فقال : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي كالصديق القريب ، قال مقاتل بن حيّان : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ثم أسلم فصار وليّا بالإسلام وحميما بالقرابة (٧).
قوله : (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ) في هذه الجملة التّشبيهيّة وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والموصول مبتدأ ، و «إذا» التي (٨)
__________________
(١) البغوي ٦ / ١١٢.
(٢) زيادة من الرازي عن النسخ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) في الرازي بمعنى أنك إذا أتيت.
(٥) انظر الرازي ٢٧ / ١٢٧.
(٦) البغوي ٦ / ١١٢.
(٧) السابق.
(٨) كذا في الدر المصون وفي النسختين «الذي» وكلا اللفظين صحيحان وقد أخذ المؤلف هذين الوجهين عن الدر المصون عن أبي البقاء العكبري في التبيان ١١٣٧.