بَعِيدٍ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء. وقيل: من دعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء ، وهذا مثل لقلّة انتفاعهم بما يوعظون به (١).
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل : إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وردّه آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب ، فقبله بعضهم وهم أصحابك ، ورده آخرون وهم الذين يقولون : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه (٢). ثم قال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني في تأخير العذاب عنهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من صدقك وكتابك «مريب» موقع لهم الريبة ، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ). ثم قال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) يعني خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم (٣) فالله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٤).
قوله : «فلنفسه» يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عمله (٥) ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالح لنفسه (٦). وقوله «فعليها» مثله. ثم قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [آل عمران : ١٨٢].
قوله (تعالى) (٧) : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) لما هدد الكفار بقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة ، فكأن سائلا قال : ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى : إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال : إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر ، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله ، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين :
أحدهما : قوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها).
والثاني : قوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)(٨).
__________________
(١) البغوي ٦ / ١١٤.
(٢) الرازي ٢٧ / ١٣٤.
(٣) في ب والله ، بالواو.
(٤) انظر المرجعين السابقين.
(٥) الدر المصون ٤ / ٧٣٨.
(٦) التبيان ١١٢٨.
(٧) زيادة من أالأصل.
(٨) قاله الإمام الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٧ / ١٣٦ و ١٣٧.