حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال (١) : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) قال ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ : لنوقفنّهم على مساوىء أعمالهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) وهذا في مقابلة قولهم : (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى). ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال : (إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي تعاظم ، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع (٣). ومعنى «عريض» كبير. والعرب تستعمل الطّول والعرض في الكثرة ، يقال : أطال فلان الكلام والدعاء وأعرض أي أكثر (٤).
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) تقدم الكلام عليها ، ومفعولها الأول هنا محذوف ، تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني (٥) هو الجملة الاستفهامية.
فصل
ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه ، وما تأملتم فيه وبالغتم في النّفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلا وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علما بديهيّا فقيل : الدليل يحتمل أن يكون صحيحا ، وأن يكون فاسدا ، فبتقدير أن يكون صحيحا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة ، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دلّ دليل على صحته قبلتموه ، وإن دل دليل على فساده تركتموه ، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل. فقوله : (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم (٦).
ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين فقال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآفاق جمع أفق وهو الناحية. نقل النّوويّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النّواحي ، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء ، وأفق ـ بإسكان الفاء ـ قال الشاعر (رحمهالله) (٧) :
٤٣٦٩ ـ لو نال حيّ من الدّنيا بمنزلة |
|
أفق السّماء لنالت كفّه الأفقا (٨) |
__________________
(١) الرازي ٢٧ / ١٣٧ و ١٣٨.
(٢) البغوي والخازن ٦ / ١١٥.
(٣) الرازي السابق والكشاف ٣ / ٤٥٧.
(٤) المرجعان السابقان.
(٥) البحر المحيط ٧ / ٥٠٥ ، والسمين ٤ / ٧٤٠.
(٦) الرازي ٢٧ / ١٣٨ و ١٣٩.
(٧) زيادة من أ.
(٨) من البسيط لزهير بن أبي سلمى.
والشاهد في أفق الأولى والثانية حيث إنهما مفرد آفاق والأولى بضم الهمزة وتسكين الفاء والثانية بضم ـ