قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ...) الآية لمّا عظم وحيه إلى محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بقوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحا وهو أول أنبياء الشريعة. قال مجاهد (١) : أوصيناك وإياه يا محمد دينا واحدا (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن وشرائع الإسلام (ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة (٢).
واختلفوا في الموصى به ، فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات. وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبيا إلا وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم. وقيل : هو التوحيد والبراءة من الشرك. وقيل : هو ما ذكر من بعد في قوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة (٣).
فصل
قال ابن الخطيب : في لفظ الآية إشكالات :
أحدها : قال في أول الآية : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وفي آخرها (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ) وفي وسطها (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فما فائدة هذا التفاوت؟
وثانيها : ذكر نوحا على سبيل الغيبة فقال : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وقال (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ).
وثالثها : تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك. وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد ، وهو مشكل ، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة (٤).
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال : شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحته ، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئا مغايرا للتكاليف والأحكام ؛ لأنها مختلفة متفاوتة ، قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] فوجب أن يكون المراد منه (الأمور) (٥) التي لا تختلف باختلاف الشرائع ، وهو الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، (وأصول الدين) (٦).
__________________
(١) البغوي السابق.
(٢) الرازي السابق ٢٧ / ١٥٤.
(٣) انظر البغوي السابق والقرطبي ١٦ / ١٠.
(٤) في الرازي وبالجملة فالمقصود من الآية .. الخ.
(٥) سقط من ب.
(٦) زيادة عن الرازي وانظر تفسيره ٢٧ / ١٥٦.