بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقا لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرما (١).
فصل
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب بقوله : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ) أن (جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة ، فحملتهم الحميّة النّفسانية الطبيعية (٢) ، على أن ذهبت (٣) كل طائفة إلى مذهب ، ودعوا الناس إليه ، وقبحوا ما سواه طالبا للذكر والرياسة فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف.
ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل ، إلا أنّه تعالى أخّر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلا مسمّى ، أي وقتا معلوما وهذا معنى قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). والأجل المسمّى قد يكون في الدنيا ، وقد يكون في الآخرة ، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة ، فقال ابن عباس والأكثرون : هم اليهود والنصارى (٤) ، لقوله تعالى في آل عمران : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩].
وقوله في سورة «لم يكن» : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤]. وقيل : هم العرب (٥) ، وهذا باطل ، لما تقدم ، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من بعدهم» (٦) أي من بعد أنبيائهم. وقيل : من بعد الأمم الخالية (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من كتابهم. وقيل من محمد ـ صلىاللهعليهوسلم (٧) ـ و «مريب» صفة الشك ، أي لا يؤمنون به حق الإيمان.
قوله : «أورثوا» قرأ زيد بن علي : ورّثوا ـ بالتشديد ـ مبنيا للمفعول (٨).
قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) في اللام وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى «إلى» أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم (٩) ، وهو الاتفاق
__________________
(١) السابق.
(٢) كذا في ب وفي الرازي : الحمية النفسانية والأنفة الطبيعية.
(٣) في ب والرازي ذهب وانظر الرازي السابق.
(٤) ذكره الرازي في تفسيره ٢٧ / ١٥٨ والقرطبي في الجامع ١٦ / ١٢.
(٥) ولم يحدد الرازي من قال بهذا. انظر الرازي السابق.
(٦) المراد بهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وانظر الرازي السابق.
(٧) البغوي ٦ / ١١٩.
(٨) من الشواذ غير المتواترات البحر المحيط ٧ / ٥١٣ والسمين في الدر ٤ / ٧٤٩.
(٩) قاله الفراء في المعاني ٣ / ٢٢.