الأول : أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد ، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البغي في الأرض ، وذلك يوجب فساد قول المجبرة.
الثاني : أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق ؛ لأنه يفضي إلى المفسدة ، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريدا للمفسدة كان أولى.
وأجيب : بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن ، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله ، والأول باطل ؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني؟ ويلزم التسلسل ، وأيضا فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوب ونقصانات ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى.
ثم أورد الجبائي على نفسه سؤالا :
فإن قيل : أليس قد يبسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي؟!.
فأجاب عنه : بأن الذي يبسط له الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطي ذلك الرزق أو لم يعط (١). قال ابن الخطيب : هذا الجواب فاسد ، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] حكم مطابق لكون حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر فمع حصول الغنى تميل إلى الشر أكثر ، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان (٢).
فصل
في كون بسط الرزق موجبا للطغيان وجوه :
الأول : أن الله تعالى لو سوّى في الرزق بين الكل لا متنع كون البعض محتاجا إلى البعض ، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح.
الثاني : أن هذه الآية مختصة بالعرب ، فإنه (٣) كلما اتسع رزقهم ، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم ، أقدموا على النهب والغارة.
الثالث : أن الإنسان متكبر بالطبع ، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة (٤).
__________________
(١) انظر الرازي مع تغيير وتصرف في العبارة ٢٧ / ١٧٠.
(٢) بالمعنى من تفسيره ٢٧ / ١٧٠.
(٣) في ب وإنه.
(٤) المرجع السابق.