فصل
المشهور أن المراد من هذا الجعل أنهم أثبتوا لله ولدا بمعنى حكموا به ، كما تقول : جعلت زيدا أفضل الناس أي وصفته وحكمت به ، وذلك قولهم : الملائكة بنات الله ؛ لأن ولد الرجل جزء منه ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «فاطمة بضعة منّي» (١). والمعقول من الولد أن ينفصل من الوالد جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك الأصل ، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه (٢).
وقيل : المراد بالجزء إثبات الشركاء لله ، وذلك أنهم لما أثبتوا الشركاء فقد زعموا أن كل العباد ليست لله ، بل بعضها لله ، وبعضها لغير الله ، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم ، بل جعلوا له من بعضهم جزءا منهم. قالوا : وهذا القول أولى ، لأنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها على إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين ، ثم قال : ز (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) يعني الكافر لكفور جحود لنعم الله «مبين» ظاهر الكفر (٣).
قوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) هذا استفهام توبيخ وإنكار ، يقول اتخذ ربّكم لنفسه البنات و «أصفاكم» أخلصكم بالبنين يقال : أصفيت فلانا أي آثرته به إيثارا حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك ، كقوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ)(٤) فقوله : «وأصفاكم» يجوز أن يكون داخلا في حيز الإنكار معطوفا على «اتّخذ» ، ويجوز أن يكون حالا ، أي أم اتّخذ في هذه الحاله (٥). و «قد» مقدرة (٦) عند الجمهور.
فصل
واعلم أن الله تعالى رتّب هذه المناظر على أحسن الوجوه ، وذلك لأنه بين أن إثبات
__________________
(١) ذكره الإمام السيوطي في جامع الأحاديث ٤ / ٦٢٢ عن المسور ـ رضي الله عنه ـ.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره ٢٧ / ٢٠٠ قال : وهو المشهور.
(٣) السابق ، وانظر أيضا الكشاف ٣ / ٤٨١ ، والقرطبي ١٦ / ٦٩.
(٤) وهو بتوضيح وتفصيل من المؤلف لما في القرطبي ١٦ / ٧٠.
(٥) نقله في الدر المصون ٤ / ٧٧٦.
(٦) نقل الإمام السيوطي في الهمع أن الماضي المثبت المتصرف غير التالي إلا ، والمتلو بأو العاري من الضمير إيجاب قد مع الواو كقوله : فجئت وقد نضت لنوم ثيابها. فإن كان جامدا كليس ، أو منفيا ، فلا نحو : جاء زيد وما طلعت الشمس ثم قال : هذا ما جزم به المتأخرون كابن عصفور ، والأبّذيّ ، والجزوليّ ، وهو قول الفارسي ، والمبرد. قال أبو حيان : والصحيح وقوع الماضي حالا بدون «قد» ولا يحتاج إلى تقديرها لكثرة ورود ذلك وتأول الكثير ضعيف جدا ، لأنا إنما نبني المقاييس العربية على وجود الكثرة. وهذا مذهب الأخفش أيضا فيما نقله صاحب اللباب عن الكوقيين ، وابن أصبغ عن الجمهور. انظر الهمع ١ / ٢٤٧ بتصرف.