الثالث : أن يكون مجرورا بدلا من «ما» الموصولة في قوله : (مِمَّا تَعْبُدُونَ) قاله الزمخشري (١). ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز إلا في نفي أو شبهه. قال : «وغرّه كون «براء» في معنى النفي ، ولا ينفعه ذلك ، لأنه موجب» (٢). قال شهاب الدين : قد تأول النحاة ذلك في مواضع من القرآن كقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] ، (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥]. والاستثناء المفرغ لا يكون في إيجاب ، ولكن لما كان «يأبى» بمعنى لا يفعل ، (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) بمعنى لا تسهل ولا تخفّ ساغ ذلك فهذا مثله (٣).
الرابع : أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون «ما» نكرة موصوفة. قاله الزمخشري(٤). قال أبو حيان : وإنما أخرجها في هذا الوجه عن كونها موصولة ، لأنه يرى أن «إلّا» بمعنى غير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف. فعلى هذا يجوز أن تكون «ما» موصولة» و «إلا» بمعنى غير صفة لها (٥).
فصل
(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) الضمير المرفوع لإبراهيم وهو الظاهر ، أو الله والضمير المنصوب لكلمة التوحيد المفهومة من قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ) إلى آخره ، أو لأنها بمنزلة الكلمة ، فعاد الضمير على ذلك اللفظ لأجل المعنى به. وقرأ حميد بن قيس : كلمة ـ بكسر الكاف وسكون اللام ـ (٦). وقرىء : في عقبه بسكون القاف (٧). وقرىء : في عاقبه (٨) أي ورائه ، والمعنى أن هذه الكلمة كلمة باقية في عقبه أي في ذريته. قال قتادة : لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحّده. قال القرظيّ (٩) : يعني وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه باقية في ذريته. وهو قوله تعالى ـ عزوجل ـ : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢]. قال ابن زيد : يعني قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وقرأ : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)(١٠) [الحج : ٧٨] (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم. قال السدي : لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عزوجل.
__________________
(١) الكشاف ٣ / ٤٨٤.
(٢) بالمعنى من البحر ٨ / ١٢.
(٣) الدر المصون ٤ / ٧٧٩.
(٤) الكشاف له ٣ / ٤٨٤.
(٥) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ١٢.
(٦) شاذة غير متواترة انظر مختصر ابن خالويه ١٣٥.
(٧) انظر البحر ٨ / ١٢ والكشاف ٣ / ٤٨٥ ونسبها صاحب الشواذ إلى إسحاق ٢١٧.
(٨) نسبها المرجع السابق إلى قتادة.
(٩) تصحيح عن النسختين ففيهما القرطبي وليس هو.
(١٠) انظر هذه المعاني في القرطبي ١٦ / ٧٧.