قوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٣٢)
قوله : (بَلْ مَتَّعْتُ) قرأ الجمهور ـ متّعت ـ بتاء المتكلم وقتادة ، والأعمش بفتحها للمخاطب خاطب إبراهيم أو محمد ربه بذلك. وبها قرأ نافع في رواية يعقوب (١). والأعمش أيضا : بل متّعنا بنون العظمة (٢) هؤلاء وآباءهم يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم يريد مشركي مكة ، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ) وهو القرآن. وقال الضحاك : يعني الإسلام (٣)(وَرَسُولٌ مُبِينٌ) برسالة واضحة يبين لهم الأحكام ، وهو محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلم يطيقوه وعصوا ، وكذبوا به ، وسموه ساحرا ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال ، وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا ، فأعرضوا عن الحق (٤). وقال الزمخشري :
فإن قيل (٥) : ما وجه من قرأ : متّعت ، بفتح التاء؟.
قلنا (٦) : كأن الله سبحانه وتعالى اعترض على ذاته في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فقال : بل متّعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسّعة في الرزق حتى منعهم (٧) ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك شيئا في زيادة الشكر ، والثبات على التوحيد (٨) ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا ، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه ، فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه (٩) ويريد (١٠) بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعل نفسه (١١).
__________________
(١) لم ترد عن نافع في المتواتر. انظر البحر المحيط ٨ / ١٢.
(٢) قال أبو حيان : وهي تعضد قراءة الجمهور وانظر هذه القراءة هي وسابقتها في البحر ٨ / ١٢ والدر المصون ٤ / ٧٨٠.
(٣) القرطبي ١٦ / ٨٢.
(٤) الرازي ٢٧ / ٢٠٨.
(٥) في ب إن قيل ، وفي الزمخشري : فإن قلت كالعادة.
(٦) في الكشاف : قلت.
(٧) في الكشاف : شغلهم.
(٨) وفيه : والإيمان.
(٩) زيادة عن الكشاف.
(١٠) في الكشاف وغرضه.
(١١) وفيه : فعله لا فعل نفسه ؛ وانظر الكشاف ٣ / ٨٥.